فصل: 1- خمسة أدلة على النّبوة في آية واحدة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ}.
عطف على جملة: {وواعدنا موسى} [الأعراف: 142] عطَف قصة على قصة، فذكر فيما تقدم قصة المناجاة، وما حصل فيها من الآيات والعبر، وذكر في هذه الآية ما كان من قوم موسى، في مدة مغيبه في المناجاة، من الإشراك.
فقوله: {من بعده} أي من بعد مغيبه، كما هو معلوم من قوله: {ولما جاء موسى لميقاتنا} [الأعراف: 143] ومن قوله: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفْني في قومي} [الأعراف: 142].
وحَذْفُ المضاف مع بَعْد المضافةِ إلى اسم المتحّدث عنه شائع في كلام العرب، كما تقدم في نظيرها من سورة البقرة.
ومن في مثله للابتداء، وهو أصل معاني من وأما من في قوله: {من حليَّهم} فهي للتبعيض.
والحُلّي بضم الحاء وكسر اللام وتشديد المثناة التحتية، جمع حَلْي، بفتح الحاء وسكون اللام وتخفيف التحتية، ووزن هذا الجمع فُعول كما جمع ثدْي، ويجمع أيضًا على حِلي، بكسر الحاء مع اللام، مثل عِصي وقِسي اتباعًا لحركة العين، وبالأول قرأ جمهور العشرة، وبالثاني حمزة، والكسائي، وقرأ يعقوب {حَلْيهم} بفتح الحاء وسكون اللام على صيغة الإفراد، أي اتخذوا من مصوغهم وفي التوراة أنهم اتخذوه من ذهب، نزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائِهم وبناتهم وبنيهم.
والعجل ولد البقرة قبل أن يصير ثَوْرًا، وذكر في سورة طه أن صانع العجل رجل يقال له السامري، وفي التوراة أن صانعه هو هارون، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه الواقع في التوراة بعد موسى، ولم يكن هارون صائِغًا، ونسب الاتخاذ إلى قوم موسى كلهم على طريقة المجاز العقلي، لأنهم الآمرون باتخاذه والحريصون عليه، وهذا مجاز شائِع في كلام العرب.
ومعنى اتخذوا عِجلًا صورة عِجْل، وهذا من مجاز الصورة، وهو شائِع في الكلام.
والجسد الجسم الذي لا روح فيه، فهو خاص بجسم الحيوان إذا كان بلا روح، والمراد أنه كجسم العجل في الصورة والمقدار إلاّ أنه ليس بحي وما وَقع في القصص: إنه كان لحمًا ودمًا ويأكل ويشرب، فهو من وضع القصاصين، وكيف والقرآننِ يقول: {من حُليهم}، ويقول: {له خوار}، فلو كان لحمًا ودمًا لكان ذكره أدخل في التعجيب منه.
والخُوار بالخاء المعجمة صوت البقر، وقد جعل صانع العجل في باطنه تجْويفًا على تقدير من الضيق مخصوص، واتخذ له آلة نافخة خفية، فإذا حركت آلة النفخ انضغط الهواء في باطنه، وخرج من المضيق، فكان له صوت كالخوار، وهذه صنعة كصنعة الصفارة والمزمار، وكان الكنعانيون يجعلون مثل ذلك لصنعهما المسمى بعْلًا.
و{جسدًا} نعت ل {عجلًا} وكذلك {له خوار}.
وجملة: {ألم يروا أنه لا يكلمهم} مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا؛ لبيان فساد نظرهم في اعتقادهم.
والاستفهام للتقرير وللتعجيب من حالهم، ولذلك جعل الاستفهام عن نفي الرؤية، لأن نفي الرؤية هو غير الواقع من حالهم في نفس الأمر، ولكن حالهم يشبه حال من لا يرون عدم تكليمه، فوقع الاستفهام عنه لعلهم لم يروا ذلك، مبالغة، وهو للتعجيب وليس للإنكار، إذ لا ينكر ما ليس بموجود، وبهذا يعلم أن معنى كونه في هذا المقام بمنزلة النفي للنفي إنما نشأ من تنزيل المسؤول عنهم منزلة من لا يرى، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} في سورة البقرة (243).
والرؤية بصرية، لأن عدم تكليم العجل إياهم مشاهد لهم، لأن عدم الكلام يرى من حال الشيء الذي لا يتكلم، بانعدام آلة التكلم وهو الفم الصالح للكلام، وبتكرر دعائهم إياه وهو لا يجيب.
وقد سفه رأي الذين اتخذوا العجل إلاهًا، بأنهم يشاهدون أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلًا، ووجه الاستدلال بذلك على سفه رأيهم هو أنهم لا شبهة لهم في اتخاذه إلاهًا بأن خصائصه خصائص العجماوات، فجسمه جسم عجل، وهو من نوع ليس أرقى أنواع الموجودات المعروفة، وصوته صوت البقر، وهو صوت لا يفيد سامعه، ولا يبين خطابًا، وليس هو بالذي يهديهم إلى أمر يتبعونه حتى تغني هدايتهم عن كلامه، فهو من الموجودات المنحطة عنهم، وهذا كقول إبراهيم {فاسْالوهم إن كانوا ينطقون} [الأنبياء: 63] فماذا رأوا منه مما يستأهل الإلهية، فضلًا على أن ترتقي بهم إلى الصفات التي يستحقها الإله الحق، والذين عبدوه أشرف منه حالًا وأهدى، وليس المقصود من هذا الاستدلال على الألوهية بالتكليم والهداية، وإلا للزم إثبات الإلهية لحكماء البشر.
وجملة: {اتخذوه} مؤكدة لجملة {واتخذ قوم موسى} فلذلك فصلت، والغرض من التوكيد في مثل هذا المقام هو التكرير لأجل التعجيب، كما يقال: نَعمْ اتخذوه، ولتبنى عليه جملة {وكانوا ظالمين} فيظهرَ أنها متعلقة باتخاذ العجل، وذلك لبعد جملة: {واتخذ قوم موسى} بما وليها من الجملة وهذا كقوله: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} إلى قوله: {فليكتب} [البقرة: 282] أعيد فليكتب لتُبنى عليه جملة: {وليُملل الذي عليه الحق} [البقرة: 282]، وهذا التكرير يفيد معَ ذلك التوكيدَ وما يترتب على التوكيد.
وجملة: {وكانوا ظالمين} في موضع الحال من الضمير المرفوع في قوله: {اتخذوه} وهذا كقوله في سورة البقرة (51) {ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون}. اهـ.

.قال صاحب الأمثل:

وهنا لابد من الوقوف عند نقاط هامة هي:

.1- خمسة أدلة على النّبوة في آية واحدة:

لم ترد في آية من آيات القرآن أدلة عديدة على حقانية دعوة الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في هذه الآية... فلو أننا أمعنا النظر بدقة في الصفات السبع التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية لنبيه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لوجدنا أنّها تحتوي على سبعة أدلة واضحة لإِثبات نبوته:
الأوّل: أنّه أمّي لم يدرس، ولكنّه مع ذلك أتى بكتاب لم يغيّر مصير أهل الحجاز فقط، بل كان نقطة تحول هام في التأريخ البشري، حتى أنّ الذين لم يقبلوا بنبوته لم يشكوا في عظمة كتابه وتعاليمه.
فهل يتفق والحسابات الطبيعية أن يقوم بهذا العمل شخص نشأ في بيئة جاهلية ولم يتتلمذ على أحد؟
الثّاني: أنّ دلائل نبوته قد وردت بتعابير مختلفة في الكتب السماوية السابقة على نحو توجد علمًا لدى المرء بحقانيته.... فإنّ البشارات التي جاءت في تلك الكتب لا تنطبق إلاّ عليه صلى الله عليه وآله وسلم فقط.
الثّالث: أن محتويات دعوته تنسجم انسجامًا كاملا مع العقل، لأنّه يدعو إلى المعروف، والنهي عن المنكر والقبائح، وهذا الموضوع يتّضح بجلاء بمطالعة تعاليمه.
الرّابع: أنّ محتويات دعوته منسجمة مع الطبع السليم والفطرة السويّة.
الخامس: لو لم يكن من جانب الله لكان عليه أن يقوم بما يضمن مصالحه الخاصّة، وفي هذه الصورة كان يتعين عليه أن لا يرفع الأغلال والسلاسل عن الناس، بل عليه أن يبقيهم في حالة الجهل والغفلة لاستغلالهم بنحو أفضل، في حين أنّنا نجده يحرر الناس من الأغلال الثقيلة.
أغلال الجهل والغفلة عن طريق الدعوة المستمرة إلى العلم والمعرفة.
أغلال الوثنية والخلافة عن طريق الدعوة إلى التوحيد.
أغلال التمييز بكل أنواعه، والحياة الطبقية بجميع أصنافها، عن طريق الدعوة إلى الأخوة الدينية والإِسلامية، والمساواة أمام القانون.
وهكذا سائر الأغلال الأُخرى.
إنّ كل واحد من هذه الدلائل لوحده دليل على حقانية دعوته، كما أنّ مجموعها دليل أوضح وأقوى.

.2- كيف كان النّبي أُميًّا؟

هناك احتمالات ثلاثة معروفة حول مفهوم الأُمّي كما قلنا سابقًا:
أوّلها: أن معناه: الذي لم يدرس.
الثّاني: أنّ معناه: المولود في أرض مكّة، والناهض منها.
الثّالث: أنّ معناه الذي قام من بين صفوف الجماهير.
ولكن الرأي الأشهر هو التّفسير الأوّل، وهو أكثر انسجامًا مع موارد استعمال هذه اللفظة، ويمكن أن تكون المعاني الثلاثة مرادة برمتها أيضًا، كما قلنا.
ثمّ إنّه لا نقاش بين المؤرخين بأنّ الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يدرس، ولم يكتب شيئًا، وقد قال القرآن الكريم- أيضًا- في الآية (48) من سورة العنكبوت حول وضع النّبي قبل البعثة: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذًا لارتاب المبطلون}.
وأساسًا كان عدد العارفين بالكتابة والقراءة في المحيط الحجازي قليلا جدًّا، حيث كان الجهل هو الحالة السائدة على الناس بحيث أن هؤلاء العارفين بالكتابة والقراءة كانوا معروفين بأعيانهم وأشخاصهم، فقد كان عددهم في مكّة من الرجال لا يتجاوز (17) شخصًا، ومن النساء أمرأة واحدة.
من المسلّم أن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان قد تعلّم القراءة والكتابة- في مثل هذه البيئة- لدى أستاذ لشاع ذلك وصار أمرًا معروفًا للجميع، وعلى فرض أنّنا لم نقبل بنبوته، ولكن كيف يمكنه صلى الله عليه وآله وسلم أن ينفي- في كتابه- بصراحة هذا الموضوع؟ ألا يعترض عليه الناس ويقولون: إن دراستك وتعلّمك للقراءة والكتابة أمر مسلّم معروف لنا، فكيف تنفي ذلك؟
إنّ هذه قرينة واضحة على أُميّة النّبي.
وعلى كل حال، فإنّ وجود هذه الصفة في النّبي صلى الله عليه وآله وسلم كان تأكيدًا على نبوته حتى ينتفي أي احتمال في إرتباطه إلاّ بالله وبعالم ما وراء الطبيعة في صعيد دعوته.
هذا بالنسبة إلى فترة ما قبل النّبوة، وأمّا بعد البعثة فلم ينقل أحد المورّخين أنّه تلقى القراءة أو الكتابة من أحد، وعلى هذا بقي صلى الله عليه وآله وسلم على أمُيّته حتى نهاية عمره.
ولكن من الخطأ الكبير أن تتصوّر أنّ عدم التعلّم عند أحد يعني عدم المعرفة بالكتابة والقراءة، والذين فسّروا الأّمّية بعدم المعرفة بالكتابة والقراءة كأنّهم لم يلتفتوا إلى هذا التفاوت.
ولا مانع أبدًا من أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عارفًا بالقراءة والكتابة بتعليم الله، ومن دون أن يتتلمذ على يد أحد من البشر، لأنّ مثل هذه المعرفة هي بلا شك من الكمالات الإِنسانية، ومكملة لمقام النّبوة.
ويشهد بذلك ما ورد في الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السلام أن نص الرواية.
ولكنّه لأجل أن لا يبقى أي مجال لأدنى تشكيك في دعوته لم يكن صلى الله عليه وآله وسلم يستفيد من هذه المقدرة.
وقول البعض: إنّ القدرة على الكتابة والقراءة لا تعدّ كمالا، فهما وسيلة للوصول إلى الكمالات العلميّة، وليسا بحدّ ذاتها علمًا حقيقيًا ولا كمالا واقعيًا فإن جوابه كامن في نفسه، لأنّ العلم بطريق الكمال كمال أيضًا.
قد يقال: إنّه نفي في روايتين عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام بصراحة تفسير {الأُمّي} بعدم القراءة والكتابة، بل بالمنسوب إلى أم القرى مكّة.
ونقول في الردّ: إنّ إحدى هاتين الروايتين مرفوعة حسب اصطلاح علم الحديث فلا قيمة لها من حيث السند، والرواية الأُخرى منقولة عن جعفر بن محمّد الصوفي وهو مجهول.